رأيتُ صديقي مهمومًا، وفي أمره مغمومًا.
فساءني حالُه، وأشجاني أمرُه، فاقتربتُ منه وسألتُه: ماذا بك يا صديقي؟
فرد عليَّ بالشُّكر والدعاء، مع إشارةٍ منه إلى عدم الرَّغبة في التحدُّث!
فألححتُ عليه، فقال لي: أمَا وقد أصررتَ على معرفة ما أهمَّني، وإدراكِ ما غمَّني؛ فإنَّ مَعرِضًا مُصغَّرًا للكتاب قد فُتح -كما تعلم- لأيامٍ معدودات، وأنا أنتظره من أيامٍ بشغَف، وجاء اليوم وأنا في شظف!
والحمد لله.
فُتح المعرض -يا صديقي- وليس لديَّ نفقة، حتى أنفقَها في شراء الكتب، التي أحلم باقتِنائها منذ زمن بعيد، وأمدٍ مديد.
قلت له:
• آه، آه! ثمَّ آهٍ آه! لقد صدَق مَن قال:
قلتُ للفقر: أين أنت مُقيم؟ *** قال لي: في عمائمِ الفقهاءِ
إنَّ بيني وبينهم لَإخاءً *** وعزيزٌ عليَّ تركُ الإخاءِ!
صديقي، اعلم أنِّي أسفتُ لحالك، وحزنتُ لقالك، ولكني -والله- لا أملِك لك إلَّا الدُّعاء -وهو عظيم- وأشيرُ عليك أن تقترِض مالًا من صديقٍ عزيز، صابر كتوم، وانتبِه لهذه الأوصاف!
ثمَّ خُذ هذه التَّسليات، عن بعض العلماء أهلِ الهِمَم العاليات:
*الإمام العلَّامة محمد بن عليِّ بن وهب بنِ دقيقِ العيد، قد اكتوى بنار الفقر، فقال:
لعمري لقد قاسيتُ بالفقر شدَّةً *** وقَعتُ بها في حيْرةٍ وشتاتِ
فإن بُحتُ بالشَّكوى هتكتُ مروءتي *** وإنْ لم أبحْ بالصَّبر خِفتُ مماتي
فأعْظِم به من نازلٍ من مُلِمةٍ *** يُزيلُ حيائي، أو يزيلُ حياتي
انتهى الحِوار بيني وبين رفيقي، ثمَّ إنِّي لقيتُه في المعرض، فسلَّمتُ عليه مبتسمًا، وقلت له: الحمد لله أن قُضيَت حاجتك؟
فقال لي: الحمد لله ربِّ العالمين، لقد عملتُ بنصحك، واقترضتُ مالًا كثيرًا، ولا زلتُ -لو وجدتُ- لاقترضتُ!
قلتُ له: أحسنتَ، ولكن لا تكثِر على نفسك الدُّيون؛ فإنها همومٌ وفتون! وسدادها صعب شديد، والعوز ضاربٌ بأطنابه، والفقر متدثِّر بإهابه، فلا تفعل شيئًا تندم عليه.
فقال لي: مهْ.
أبا نعيم، واللهِ لو وجدتُ مقترضًا؛ لاقترضتُ أيًّا كان، وأنا موقِن بالخلف والعوض من ربي الكريم سبحانه وتعالى!
ألم تسمع أخي -أبا نعيم- قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ أعطِ منفِقًا خلَفًا)، وخير نفقة، النَّفقةُ على العلم والمعرفة، (ومَن سلَك طريقًا يلتمِس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة)!
قلتُ له: يعجبني فيك (صدق التوكُّل، وحسن الظنِّ بالله)، وهذا عظيم، لكن: لا تنسَ -يا أبا فهيم- أنَّنا في زمنٍ قلَّ فيه الصبر، وكثر الشَّامتون، فلو تقتصر على القليل من الاقتراض؛ خشيةَ الاحتراض!
قال لي: هل تصدِّق أنِّي لا أملك قوتًا كافيًا في بيتي، إلَّا لمامًا كفافًا!
ولكنْ هذه فرصة سانِحة؛ فإنَّ أسعار الكتب في سُعار، وغلاءها نارٌ في نار!
والآن - كما تعلم - رخصَت أسعارُها لدى هذه المكتبة، بفارق كبير، أفلا يحقُّ لي -بل يجب عليَّ- أن أبذل ما استطعت لشِراء كثير من النَّوادر، ودرَر النَّفائس، وثمين العرائس، التي احتجبَت عنِّي في خِمارٍ سميك، فلم أرها ولم ترَني، مع أنَّها من محارمي!
وأنا هائمٌ بحبِّها، متيَّمٌ بعشقها، كلفٌ بلقياها، دنف لبعدها؟!
عجبي، لمَ يرحم الناس الولهان العاشق، والصبَّ الوامق؛ بظلِّ إنسان حائل، وجمال زائل؟!
وأنا الكلِفُ الدَّنف، بمثافنة الكتب، ومكاشفَة الحُجب، وافتضاضِ أبكار الأفكار، ومضاجعة الخرائد الأطهار!
أترى، مَن أقْوَم قِيلًا، وأهدى سبيلًا، وأسدُّ طريقًا، وأحسن رفيقًا؟
ثمَّ إني أحفظ حديثًا مسندًا متصلًا، يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثلُ جبل أُحُدٍ دَينًا، لأدَّاه الله عنك؟
قل يا معاذ: اللهمَّ مالِك الملك، تؤتي الملكَ مَن تشاء، وتنزِع الملكَ ممَّن تشاء، وتعزُّ مَن تشاء، وتذلُّ مَن تشاء، بيدِك الخير إنَّك على كلِّ شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما مَن تشاء، وتَمنع منهما مَن تشاء، ارحمني رحمةً تُغنيني بها عن رحمة مَن سواك).
صححه العلَّامة الألباني في: صحيح الترغيب.
وحديث آخر: (مَن أخَذ أموالَ الناس يريد أداءَها، أدَّى الله عنه)؛ يعني: أنَّ الله سيُعينني على الأداء والقضاء، (ومن كان الله معه، فمَن يخاف، ومن يَرجو؟!).
فلمَّا سمعتُ منه هذا الكلام، الذي أصابَني بالكُلام، أدركتُ أنَّ صديقي قد خالط الكتابُ شَغافَ قلبه، بل ملَك عقلَه ولبَّه، فهو لا يَستطيع له فِراقًا، ويهيم إلى وصْله اشتياقًا.
وتذكَّرتُ حينَها بعضَ أخبار الماضين، الذين صحِبوا الكتاب، عوضًا عن الكواعبِ الأتراب، والخرد الأنجاب!
*فهذا العلَّامة الكبير: ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- يبيِّن مدى عشقِ الطَّالب للعلم، قال:
"وأمَّا عُشَّاق العلم، فأعظَم شغفًا به، وعِشقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر!"
(روضة المحبين: ٦٩)
*وما أروع هذا التصويرَ البديع، من العلَّامة الرفيع: أبي إسحاق الألبيري، في تائيَّته -ولي عليها شرح- يسره الله- حيث قال موصيًا وناصحًا ابنَه:
فلو قد ذقتُ مِن حلواه طعمًا *** لآثرتَ التعلُّمَ واجتهدتا
ولم يَشغلْكَ عنه هوًى مطاعٌ *** ولا دنيا بزُخرفها فُتنتا
ولا ألهاكَ عنه أنيقُ روضٍ *** ولا دنيا بزينتها كلفتا
فقوتُ الروح أرواح المعاني *** وليس بأنْ طعمتَ ولا شربتا
فواظبه وخذ بالجدِّ فيه *** فإن أعطاكَه اللهُ انتفعتا
*وهذا العلَّامة الأديب الجاحظ المعتزلي، يبيِّن أنَّ الإنفاق على الكتب من أعظم اللذَّات؛ حيث قال:
"من لم تكن نفقته التي تَخرج في الكتب ألذَّ عنده من إنفاق عُشَّاق القِيان، والمستهترين بالبنيان؛ لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا، وليس ينتفع بإنفاقه، حتى يؤثِر اتِّخاذ الكتب إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله، وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابي في فرسه"
(كتاب الحيوان: ١/ ٥٥)
*وهذا العلَّامة سلمان الحموي الحنبلي، يصوِّر كيف أنَّه يجد اللَّومَ على شِراء الكتب، فيردُّ بردٍّ مسكِتٍ مخرس، وكثيرًا ما كان شيخنا مقبل -رحمه الله- يكرِّرها؛ إذ يقول:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكتْبِ ما حوَت *** يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني
لعلِّي أرى فيها كتابًا يدلُّني *** لأخذ كتابي آمنًا بيميني
وبعد هذه النماذج من هؤلاء الطلعات العظام.. دعوتُ اللهَ له، وأكبرتُ حرصَه، وعجبتُ من حبه للكتاب، مع فقره، وشدَّة حاجته، إلَّا أنه نهِمٌ طَموح، وطُلَعةٌ جموح، ثمَّ ودَّعتُه مسلِّمًا داعيًا.
وهنا، أسيتُ لحال كثير من الموسِرين، والأغنياءِ المقتدرين، الذين يَقدرون على شراء ما شاؤوا مِن نفيس الكتب، والأمالي والنخب!
ولكنهم في بُعدٍ عن الكتاب وأخباره، وفي نأيٍ عن نعيمه العظيم، بل لجأوا إلى الفاني الزائل.
أقول لهم:
أين أنتم من كنز الكنوز، وإحرازِ شرَف النفوس، وزيادة أعماركم، والاطلاع على عجائب عالمكم، والإخبارِ عما كان قبلكم؟!
أين أنتم من اقتنائها، والحرصِ على شرائها، واهتبالِ فرصة ما أنتم فيه من المُكنَةِ والقدرة؟!
أين أنتم من القراءة والاطِّلاع، والغوصِ والاضطلاع، والشربِ من النمير الصَّافي، والارتِشاف من العسل الشَّافي؟!
اقرؤوا وجرِّبوا، ستجدون اللذَّة تغمركم، والسعادةَ تحفكم.
لا أستطيع وصف لذَّة القراءة، وحلاوة الاطِّلاع، وطلاوة التصفُّح، وسعادة الجلوس بين الكتب، وهي تحفُّك عن يمينك ويسراك.
فالقراءة ترفد عقلَك بمزيدٍ من المعرفة، وتزيد ذهنك قوَّةً وصلابة، وتشدُّ قواك، وأنت ممسِك بكتابك.
يا لله، أين أصحاب اللذَّات، مهما تعدَّدَت وتنوَّعَت، وتشكَّلَت وتزخرفت...، هلمُّوا إليَّ، فقارعوني وناظروني، لن تستطيعوا، وليس إلى ذلكم من سبيل!
وخير لكم... دَعُوا مناظرتي، وتعالوا جرِّبوا لذَّتي، سترجعون مصدِّقين مثقَّفين، منشرحين مفعمين، سعادة وانشراحًا، ولذَّة وارتياحًا.
أطلتُ عليكم، ولكنِّي على أمَل أن ألقاكم تحت سقف المعرفة، وبين جدرانِ الثَّقافة، وحول بساتين الكتب، ومع رحيقِ الكلمات، وعند سموِّ الفِكر.
وسلام الله عليكم.
كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
فساءني حالُه، وأشجاني أمرُه، فاقتربتُ منه وسألتُه: ماذا بك يا صديقي؟
فرد عليَّ بالشُّكر والدعاء، مع إشارةٍ منه إلى عدم الرَّغبة في التحدُّث!
فألححتُ عليه، فقال لي: أمَا وقد أصررتَ على معرفة ما أهمَّني، وإدراكِ ما غمَّني؛ فإنَّ مَعرِضًا مُصغَّرًا للكتاب قد فُتح -كما تعلم- لأيامٍ معدودات، وأنا أنتظره من أيامٍ بشغَف، وجاء اليوم وأنا في شظف!
والحمد لله.
فُتح المعرض -يا صديقي- وليس لديَّ نفقة، حتى أنفقَها في شراء الكتب، التي أحلم باقتِنائها منذ زمن بعيد، وأمدٍ مديد.
قلت له:
• آه، آه! ثمَّ آهٍ آه! لقد صدَق مَن قال:
قلتُ للفقر: أين أنت مُقيم؟ *** قال لي: في عمائمِ الفقهاءِ
إنَّ بيني وبينهم لَإخاءً *** وعزيزٌ عليَّ تركُ الإخاءِ!
صديقي، اعلم أنِّي أسفتُ لحالك، وحزنتُ لقالك، ولكني -والله- لا أملِك لك إلَّا الدُّعاء -وهو عظيم- وأشيرُ عليك أن تقترِض مالًا من صديقٍ عزيز، صابر كتوم، وانتبِه لهذه الأوصاف!
ثمَّ خُذ هذه التَّسليات، عن بعض العلماء أهلِ الهِمَم العاليات:
*الإمام العلَّامة محمد بن عليِّ بن وهب بنِ دقيقِ العيد، قد اكتوى بنار الفقر، فقال:
لعمري لقد قاسيتُ بالفقر شدَّةً *** وقَعتُ بها في حيْرةٍ وشتاتِ
فإن بُحتُ بالشَّكوى هتكتُ مروءتي *** وإنْ لم أبحْ بالصَّبر خِفتُ مماتي
فأعْظِم به من نازلٍ من مُلِمةٍ *** يُزيلُ حيائي، أو يزيلُ حياتي
انتهى الحِوار بيني وبين رفيقي، ثمَّ إنِّي لقيتُه في المعرض، فسلَّمتُ عليه مبتسمًا، وقلت له: الحمد لله أن قُضيَت حاجتك؟
فقال لي: الحمد لله ربِّ العالمين، لقد عملتُ بنصحك، واقترضتُ مالًا كثيرًا، ولا زلتُ -لو وجدتُ- لاقترضتُ!
قلتُ له: أحسنتَ، ولكن لا تكثِر على نفسك الدُّيون؛ فإنها همومٌ وفتون! وسدادها صعب شديد، والعوز ضاربٌ بأطنابه، والفقر متدثِّر بإهابه، فلا تفعل شيئًا تندم عليه.
فقال لي: مهْ.
أبا نعيم، واللهِ لو وجدتُ مقترضًا؛ لاقترضتُ أيًّا كان، وأنا موقِن بالخلف والعوض من ربي الكريم سبحانه وتعالى!
ألم تسمع أخي -أبا نعيم- قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ أعطِ منفِقًا خلَفًا)، وخير نفقة، النَّفقةُ على العلم والمعرفة، (ومَن سلَك طريقًا يلتمِس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة)!
قلتُ له: يعجبني فيك (صدق التوكُّل، وحسن الظنِّ بالله)، وهذا عظيم، لكن: لا تنسَ -يا أبا فهيم- أنَّنا في زمنٍ قلَّ فيه الصبر، وكثر الشَّامتون، فلو تقتصر على القليل من الاقتراض؛ خشيةَ الاحتراض!
قال لي: هل تصدِّق أنِّي لا أملك قوتًا كافيًا في بيتي، إلَّا لمامًا كفافًا!
ولكنْ هذه فرصة سانِحة؛ فإنَّ أسعار الكتب في سُعار، وغلاءها نارٌ في نار!
والآن - كما تعلم - رخصَت أسعارُها لدى هذه المكتبة، بفارق كبير، أفلا يحقُّ لي -بل يجب عليَّ- أن أبذل ما استطعت لشِراء كثير من النَّوادر، ودرَر النَّفائس، وثمين العرائس، التي احتجبَت عنِّي في خِمارٍ سميك، فلم أرها ولم ترَني، مع أنَّها من محارمي!
وأنا هائمٌ بحبِّها، متيَّمٌ بعشقها، كلفٌ بلقياها، دنف لبعدها؟!
عجبي، لمَ يرحم الناس الولهان العاشق، والصبَّ الوامق؛ بظلِّ إنسان حائل، وجمال زائل؟!
وأنا الكلِفُ الدَّنف، بمثافنة الكتب، ومكاشفَة الحُجب، وافتضاضِ أبكار الأفكار، ومضاجعة الخرائد الأطهار!
أترى، مَن أقْوَم قِيلًا، وأهدى سبيلًا، وأسدُّ طريقًا، وأحسن رفيقًا؟
ثمَّ إني أحفظ حديثًا مسندًا متصلًا، يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثلُ جبل أُحُدٍ دَينًا، لأدَّاه الله عنك؟
قل يا معاذ: اللهمَّ مالِك الملك، تؤتي الملكَ مَن تشاء، وتنزِع الملكَ ممَّن تشاء، وتعزُّ مَن تشاء، وتذلُّ مَن تشاء، بيدِك الخير إنَّك على كلِّ شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما مَن تشاء، وتَمنع منهما مَن تشاء، ارحمني رحمةً تُغنيني بها عن رحمة مَن سواك).
صححه العلَّامة الألباني في: صحيح الترغيب.
وحديث آخر: (مَن أخَذ أموالَ الناس يريد أداءَها، أدَّى الله عنه)؛ يعني: أنَّ الله سيُعينني على الأداء والقضاء، (ومن كان الله معه، فمَن يخاف، ومن يَرجو؟!).
فلمَّا سمعتُ منه هذا الكلام، الذي أصابَني بالكُلام، أدركتُ أنَّ صديقي قد خالط الكتابُ شَغافَ قلبه، بل ملَك عقلَه ولبَّه، فهو لا يَستطيع له فِراقًا، ويهيم إلى وصْله اشتياقًا.
وتذكَّرتُ حينَها بعضَ أخبار الماضين، الذين صحِبوا الكتاب، عوضًا عن الكواعبِ الأتراب، والخرد الأنجاب!
*فهذا العلَّامة الكبير: ابن قيّم الجوزية -رحمه الله- يبيِّن مدى عشقِ الطَّالب للعلم، قال:
"وأمَّا عُشَّاق العلم، فأعظَم شغفًا به، وعِشقًا له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر!"
(روضة المحبين: ٦٩)
*وما أروع هذا التصويرَ البديع، من العلَّامة الرفيع: أبي إسحاق الألبيري، في تائيَّته -ولي عليها شرح- يسره الله- حيث قال موصيًا وناصحًا ابنَه:
فلو قد ذقتُ مِن حلواه طعمًا *** لآثرتَ التعلُّمَ واجتهدتا
ولم يَشغلْكَ عنه هوًى مطاعٌ *** ولا دنيا بزُخرفها فُتنتا
ولا ألهاكَ عنه أنيقُ روضٍ *** ولا دنيا بزينتها كلفتا
فقوتُ الروح أرواح المعاني *** وليس بأنْ طعمتَ ولا شربتا
فواظبه وخذ بالجدِّ فيه *** فإن أعطاكَه اللهُ انتفعتا
*وهذا العلَّامة الأديب الجاحظ المعتزلي، يبيِّن أنَّ الإنفاق على الكتب من أعظم اللذَّات؛ حيث قال:
"من لم تكن نفقته التي تَخرج في الكتب ألذَّ عنده من إنفاق عُشَّاق القِيان، والمستهترين بالبنيان؛ لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا، وليس ينتفع بإنفاقه، حتى يؤثِر اتِّخاذ الكتب إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله، وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابي في فرسه"
(كتاب الحيوان: ١/ ٥٥)
*وهذا العلَّامة سلمان الحموي الحنبلي، يصوِّر كيف أنَّه يجد اللَّومَ على شِراء الكتب، فيردُّ بردٍّ مسكِتٍ مخرس، وكثيرًا ما كان شيخنا مقبل -رحمه الله- يكرِّرها؛ إذ يقول:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكتْبِ ما حوَت *** يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني
لعلِّي أرى فيها كتابًا يدلُّني *** لأخذ كتابي آمنًا بيميني
وبعد هذه النماذج من هؤلاء الطلعات العظام.. دعوتُ اللهَ له، وأكبرتُ حرصَه، وعجبتُ من حبه للكتاب، مع فقره، وشدَّة حاجته، إلَّا أنه نهِمٌ طَموح، وطُلَعةٌ جموح، ثمَّ ودَّعتُه مسلِّمًا داعيًا.
وهنا، أسيتُ لحال كثير من الموسِرين، والأغنياءِ المقتدرين، الذين يَقدرون على شراء ما شاؤوا مِن نفيس الكتب، والأمالي والنخب!
ولكنهم في بُعدٍ عن الكتاب وأخباره، وفي نأيٍ عن نعيمه العظيم، بل لجأوا إلى الفاني الزائل.
أقول لهم:
أين أنتم من كنز الكنوز، وإحرازِ شرَف النفوس، وزيادة أعماركم، والاطلاع على عجائب عالمكم، والإخبارِ عما كان قبلكم؟!
أين أنتم من اقتنائها، والحرصِ على شرائها، واهتبالِ فرصة ما أنتم فيه من المُكنَةِ والقدرة؟!
أين أنتم من القراءة والاطِّلاع، والغوصِ والاضطلاع، والشربِ من النمير الصَّافي، والارتِشاف من العسل الشَّافي؟!
اقرؤوا وجرِّبوا، ستجدون اللذَّة تغمركم، والسعادةَ تحفكم.
لا أستطيع وصف لذَّة القراءة، وحلاوة الاطِّلاع، وطلاوة التصفُّح، وسعادة الجلوس بين الكتب، وهي تحفُّك عن يمينك ويسراك.
فالقراءة ترفد عقلَك بمزيدٍ من المعرفة، وتزيد ذهنك قوَّةً وصلابة، وتشدُّ قواك، وأنت ممسِك بكتابك.
يا لله، أين أصحاب اللذَّات، مهما تعدَّدَت وتنوَّعَت، وتشكَّلَت وتزخرفت...، هلمُّوا إليَّ، فقارعوني وناظروني، لن تستطيعوا، وليس إلى ذلكم من سبيل!
وخير لكم... دَعُوا مناظرتي، وتعالوا جرِّبوا لذَّتي، سترجعون مصدِّقين مثقَّفين، منشرحين مفعمين، سعادة وانشراحًا، ولذَّة وارتياحًا.
أطلتُ عليكم، ولكنِّي على أمَل أن ألقاكم تحت سقف المعرفة، وبين جدرانِ الثَّقافة، وحول بساتين الكتب، ومع رحيقِ الكلمات، وعند سموِّ الفِكر.
وسلام الله عليكم.
كتبه: وليد بن عبده الوصابي.