مواهب الصحابة الكرام
فإن أصحاب النبي أجمعين رضي الله عنهم وهبهم الله عزوجل مواهب متعددة، بها تم حفظ كتاب الله، وبها تم تسجيل حديث رسول، وبها تم حفظ دين الله ونقله إلى من حولهم ومن بعدهم من المؤمنين بالله، بهذه المواهب الإلهية التي خصهم بها الله.
فموهبة هند كانت في جودة الوصف، فيستطيع أن يصف الشيء الذي رآه وصفاً تفصيلياً دقيقاً لا يترك منه صغيرة ولا كبيرة، وهذه موهبة من الله عزوجل، وبعضهم كانت موهبته هي الفقه والفطنة لما لا يفطن إليه الآخرين من مسائل الدين، وبعضهم كانت موهبته جودة الصوت في ترتيل كتاب الله ليجذب بصوته وتلاوته حتى الكافرين والمشركين كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومعظمهم كانت موهبته جودة الحفظ، فكان النبي صل الله عليه وسلم إذا نزلت عليه آيات كتاب الله يقرأها ثلاثاً، منهم من يحفظ ما استمع إليه من أول مرة، ومنهم من يحفظه من المرة الثانية، وآخرهم من كان يحفظه بعد المرة الثالثة، ولا يوجد أحد بعد ذلك!
مواهب ربانية جمَّلهم بها الحق ليبلغوا رسالات الله عزوجل إلى خلق الله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) )(الاحزاب) جم غفير وليس واحد فقط.
وما أحب أن ألفت النظر إليه أن شباب الإسلام؛ حتى الذين تربوا في أحضان الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام كانوا في اشتياق دائم إلى رؤية الحبيب صل الله عليه وسلم، ويبحثون عمن يصف لهم صورته الظاهرة حتى يتعلقوا بها، لأن هذا هو باب القرب من الله عزوجل: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (21الأحزاب)، فذهب سيدنا الحسن رضي الله عنه إلى خاله
هند بن أبي هالة، ويحكي هذا الأمر فيقول:
{ سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيَّ وَكَانَ وَصَّافًا، عَنْ حِلْيَةِ النَّبِيِّ صل الله عليه وسلم وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ }
يريد الوصف ليتعلق به، فإذا تعلق هذا الوصف في أفق الفؤاد ونام المرء صدَّقه الله في المنام وجاءه الحبيب زائراً له، ومنامه صل الله عليه وسلم حقيقة:
{ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ، فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ بِي }
يقول رضي الله عنه ـ حتى نرى التنافس في الخيرات ورفعة الدرجات:
{ فَكَتَمْتُهَا الْحُسَيْنَ زَمَانًا، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا }
إذاً هند بن أبي هالة، والإمام علي، وأم معبد؛ هؤلاء الثلاثة الذين لهم وصف جامع أو شامل لرسول الله صل الله عليه وسلم، أما بقية أوصاف أصحابه الذين ذكرنا أن عددهم لا يزيد عن الخمسة عشر؛ فكانت جزءاً من وصف حضرته، ولكن ليس وصفاً كلياً أو وصفاً جامعاً أو وصفاً شاملاً لرسول الله صل الله عليه وسلم.
جمع الإمام الترمذي رضي الله عنه هذه الأوصاف كلها الواردة عن هؤلاء الأصحاب من كتب الصحاح في كتابه العظيم (الشمائل المحمدية) وهذا الكتاب يحتاج إلى شروح، لأن ألفاظهم ألفاظ عربية غير سهلة المدارك، ولذلك له شروح تزيد على الخمسين شرح، منها المطبوع، ومنها المخطوط، ومنها الموجود حالياً، ومنها الذي لا يُدرى ولا يُعلم مكانه، وله شروح عصرية شرحها بعض السادة المعاصرين، ولكنها معظمها شروح لغوية، تشرح معاني الألفاظ والعبارات الواردة عن الرسول صل الله عليه وسلم، وأنا سأحاول أن أقرب الحقيقة للأحباب على قدر تيسير الله، وإلهامه، وإمدادات رسول الله صل الله عليه وسلم، وليس راءٍ كمن سمع.