انفسح مجال القول أخيراً في الصحف العراقية للخوض في شؤون المرأة الحديثة ومطالبها وهو موضوع قد استوفى نصيبه من الجدل العقيم في كثير من الأقطار العربية الأخرى خصوصاً سورية ومصر، وأسفر عن حقيقة ظاهرة مؤسفة؛ هي أن التطور الفعلي لحياة المرأة في هذين القطرين الناهضين كان ولا يزال خاضعاً للعاطفة، والتقليد والاختلاط الوثيق بالأوساط الأجنبية، أكثر مما هو خاضع لأثر التفكير والتدبر فيما يكتب الكتاب ويرى المصلحون، وما تتطلبه حالة المرأة حقيقة من إصلاح، هذه حقيقة ظاهرة انتهت بكثيرين من أصحاب الفكر الناضج والمكانة العلمية الممتازة إلى اليأس والاعتقاد (بأن الزمن وحده هو الذي يستطيع أن يحل هذه المسألة).
ففي هذا البحث الذي نتقدم به إلى القارئ الكريم نستهدف قبل كل شيء بحث هذا الموضوع بحثاً منطقياً يرجع بالفروع إلى أصولها، فيقر الحق في نصابه، ويكشف للمرأة وللرجل على السواء ما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات، من خير المرأة، ومن خير الرجل، ومن خير الوطن والإنسانية أن يعترفا بها ويسلكا طريقهما في الحياة المشتركة على نور وهدى منها.
وقبل أن نخوض في بحث هذا الموضوع نرى من فائدة القارئ أن نثبت هنا بعض الملاحظات على ما كتب في موضوع المرأة العربية الحديثة إلى اليوم:
فأول ما يلاحظ أنه لم يعن بهذا الموضوع ويتناوله بطريقة علمية وافية غير أفراد قلائل نعرف مهم الأستاذين قاسم أمين وعبدالله حسين.
ويمكن أن يقال على وجه العموم أن أكثر الباحثين المناصرين لمطالب المرأة الحديثة هم من جهة متأثرون بروح الثورة على الأوضاع الشرقية والتقاليد الجارية الموروثة، ومن جهة أخرى متأثرون بروح الإعجاب الشديد بأوضاع الغربيين وتقاليدهم المتبعة في مجتمعاتهم، ولهذا كان انتصارهم لمطالب المرأة في كثير من النقط المهمة على غير حق. أما ما نشر من مقالات في هذا الشأن فهو لا يخرج عن أبحاث جدلية؛ تارة حول السفور والحجاب وحده، وتارة حول تعليم المرأة، وتارة حول المساواة. ولم يعن أصحابها ولا مناقشوهم بالرجوع بالموضوع إلى نقطة الأساس الذي تقوم عليه جميع هذه الأبحاث، ومن ثم التقوا على خلف في البداية وافترقوا على خلف في النهاية، وظل التطور الفعلي في حياة المرأة تحت رحمة الطيش، والهوى، بعيداً عن محجة الإصلاح والنفع العام.
فالحقيقة أنه لا يمكن البت في مطالب المرأة الحديثة وإصدار حكم عادل فيها إلا إذا اتفقنا ووضعنا بأيدينا حجر الأساس الذي يجب أن تبنى عليه كل علاقة بين الرجل والمرأة. نعم يجب أن نتفق قبل كل شيء على ماهية مهمة المرأة الفطرية؛ ومكانتها في الحياة تلك المهمة والمكانة التي على كل فتاة ناشئة أن تتهيأ؛ وتهيأ لها؛ منذ أول يوم تتنسم فيه نسمات الحياة.
مهمة المرأة الفطرية ومكانتها الاجتماعية:
المرأة نصف الرجل، لا شك في ذلك؛ والمرأة وحدها، مثل الرجل وحده، نصف تحتاج إلى متمم. فحاجة الرجل إلى المرأة وحاجة المرأة إلى الرجل - بصورة عامة - حاجة فطرية، بديهية، لا خلاف فيها،. ولكن الخلاف الذي يرجع إليه كل خلاف بين الرجل والمرأة اليوم هو في (تحديد) نصف الرجل حتى يحق له أن يقول: هذا لي، وتحديد نصف المرأة حتى يحق لها أن تقول هذا لي. أو بمعنى آخر إن العلاقة بين الرجل والمرأة أصبحت مبهمة مختلطة. كل منهما أصبح لا يدري أي شيء هو الذي ينقصه من الآخر؛ وتداخلت الحقوق والواجبات حتى غدا الفصل بينها قضية من القضايا المشكلات. وإليك مثلاً من هذا التداخل والإبهام: يتقدم الرجل في مثل لندن أو برلين أو نيويورك إلى وظيفة كتابية أو غيرها يئود بها نفسه وأسرته الكبيرة العدد فتحتل كرسيه فتاة لا تعول إلا نفسها فيصبح في طرقات لندن وبرلين ونيويورك مقابل كل فتاة على كرسي الوظيفة أسرة جائعة. فإذا سألت قيل لك إن للمرأة حقاً في اكتساب الرزق كما للرجل. لقد زالت إذن معالم الحدود الفطرية التي تتلاقى وتفترق عندها حياة المرأة وحياة الرجل حتى لم يبق هناك حد ولا فاصل. فمن مصلحة الجنسين فرز الحقوق وتمييزها واقتسام مناطق العمل في ميدان الحياة بحدود واضحة جلية، فيعرف كل منهما ما له وما عليه. وإلا فلا يبعد يوم ينسحب فيه الرجل من ميدان الحرب والدفاع ليحمل عن المرأة واجبات الحمل والولادة!
هذا التمييز بين الحقوق والواجبات لا يتسنى حتى نعرف أول الميزات الفطرية التي خص بها كل من الرجل والمرأة:
فالرجل: صائد - جوال. إذا حمل سلاحه، أياً كان شكله ونوعه مادياً كان أو معنوياً، فكل بقعة من الأرض يجد فيها القوت، هي سكن له. وليست الدواعي الجسدية مما يمكن أن يجعل موضعاً للبحث هنا، فهي تفتح المنافذ لنفسها بنفسها، وليست قيداً يرغم الرجل على الالتجاء والتعلق بامرأة معينة. ولكنها قيد لا يسع المرأة تجاهله، فهي أم قبل كل شيء وبعد كل شيء، وتكوينها البدني الضعيف يجعلها أبداً في حاجة إلى حام ونصير من الرجل، ولقد يحملها اليأس أو يحملها الحمق، أو تحملها الكبرياء في وقت من الأوقات على أن تفضل الموت والعذاب عن التماس النصرة أو الحماية من الرجل، ولكن من المحقق أنه لا اليأس ولا الحمق ولا الكبرياء، ولا هذه كلها مجتمعة تصرف الأم عن التماس العون والنصير في الرجل من أجل أطفالها.
فالعلاقة الطبيعية الأساسية التي وجدت في عهد الفطرة، وعنها تفرعت على مر الأزمان العلاقات الأخرى بين الرجل والمرأة هي هذه:
"أم ذات أطفال: يحميها ويطمئن إليها، رجل". وهنا قد يعترض معترض فيقول: مالنا (ونحن في القرن العشرين عصر المدنية والنور) نرجع القهقرى لنقتبس أوضاعنا وننشئ أساس حياتنا عن عصور التوحش والهمجية؟ ولم نقر وضعاً تلقيناه عن العصور المظلمة ونحن في عصر أزال كل فرق بين الرجل والمرأة؟
وإذا كانت المرأة الحجرية الجاهلة قد قنعت بالذل والهوان، فلم يكون ذلك حجة على المرأة الحديثة المستنيرة لترضى بالذل والهوان؟ وعلى كل هذا نجيب بأن الأسس القائمة على الضرورات الفطرية الثابتة في ناموس الحياة هي أصلح الأسس وأقواها لبناء كيان اجتماعي مكين. وإن نظاماً ارتضته الفطرة وأقرته عشرات الألوف من السنين حتى سرى مسرى الوراثة في جبلة الإنسان، ليس من الهين نقضه في قرن أو بعض قرن طوعاً لموجة من موجات الجنون الاجتماعي العارض. هذا على افتراض أن منشأ تلك العلاقة الأولى بين الرجل والمرأة قامت على أساس خاطئ من الضرورة (المؤقتة) ومن ذل المرأة واستكانتها لاستبداد الرجل.. فكيف إذن والفرض صحيح، والضرورة فطرية ملازمة لحياة الإنسان إلى اليوم وإلى ما شاء الله؟ كل علاقة بين الرجل والمرأة يجب إذن أن تقوم على أساس هذه العلاقة الفطرية التي لم تتبدل ولن تتبدل إلا في الذيول والمظاهر والقشور:
"المرأة للبيت تحكمه كأم وزوجة والبيت حصن لها".
"والرجل للسعي والكفاح: حارس الحصن وحاميه، وعائله وراعيه".
.. وعلى هذا الأساس نتقدم بعد ذلك للنظر في المنهج الذي يكفل إعداد المرأة للاضطلاع بأعباء هذه المهمة الفطرية الأساسية، ولاستعراض مطالب المرأة الحديثة لنرى مبلغ انطباقها على مقتضيات هذه المهمة الفطرية التي خلقت لها.