عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ" قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ".
* * *
كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بالسداد في القول والعمل تأكيداً لما جاء في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (سورة الأحزاب: 70).
وتأكيداً لقوله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران: 102)، ويوصيهم بالمقاربة عند عجزهم عن السداد.
وتوكيداً لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (سورة التغابن: 16).
والسداد في القول هو الصدق فيه، والسداد في الفعل هو إصابه وجه الخير فيه.
والمقاربة في القول تحري الصدق بقدر الوسع بغير تكلف ولا اعتساف ولا تحريف، فهي صدق على قدر درجة المتكلم، كما سنبينه هنا إن شاء الله.
والمقاربة في الفعل: هي تحصيل بعض الخير منه، فما فات جله لا يترك كله.
وبيان ذلك أن السداد في اللغة: هو وضع الشيء في موضعه تماماً، والمقاربة وضع الشيء في موضعه على جهة تقارب الكمال، سواء كان ذلك في الأقوال أم في الأفعال.
فالشهادة مثلاً ينبغي أن تؤدي على أكمل وجه وأتمه من غير تحريف ولا التواء، ولا مجاملة ولا محابة، وأن تكون خالصة لوجه الله، لقوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } (سورة الطلاق: 2)، أي قوموها تقويماً لا عوج فيه واجعلوها مستقيمة على الطريق السوي، وألزموا فيها العدل الدقيق، وهو ما أطلق القرآن عليه لفظ القسط، والقسط ميزان محرر ليس فيه تفاوت بزيادة أو بنقصان.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (سورة النساء: 135).
ومعنى قوله تعالى: { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا }.
أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة فتؤدوها ناقصة أو محرفة عن وجهها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها مطلقاً، فإن الله لا تخفى عليه خافية من أمركم، وسوف يجازيكم على أعمالكم بحسب نياتكم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
والمقاربة في الشهادة ليست شهادة إلا إذا لم يؤد إلى ضياع حق أو النقصان منه، وكان القصد منها العدل والنصرة، ولم يكن هناك من يعترض على هذه الشهادة لعدم ظهور الميل فيها.
ولذلك لا يؤدي الشهادة على وجهها إلا الخبير بضروب الكلام وفنون القول ومجريات الأمور وتغير الأحوال، وغير ذلك مما هو في طريقها من الثبات وحسن المواجهة، والرغبة الملحة في إحقاق الحق وإبطال الباطل من غير أدنى محابة أو هوى.
وما يقال في الشهادة يقال في تأدية الفرائض والواجبات من عبادات ومعاملات، فإن السداد فيها مطلوب بالأصالة، والمقاربة مطلوبة عند العجز عن السداد كما ذكرنا.
والعاقل من درب نفسه على التزام السداد في الوفاء بالعهد والوعد والدين وسائر الحقوق العامة والخاصة، بحيث لا يرضى من عمله إلا ما كان تاماً، إرضاء لله تعالى، وطمعاً في ثوابه.
وقد جاء في الحديث: "إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أحدكم عَمَلًا أَنْ يُتْقنَهُ"
والمقاربة دربة على تحصيل السداد، فمن سار على الدرب وصل، ومن أدلج بلغ المنزل، فلا يرضى المسلم بسفساف الأمور، بل يطلب معاليها بالجد والعمل وتصحيح النية ومخالفة الهوى، فإن في طلب المعالي صلاح الحال والمآل.
فقد قال الله عز وجل عقب قوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب: 71).
وسيأتي الكلام عن السداد والمقاربة في حديث: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" فانتظره هناك، واضم إليه ما هنا تكتمل الفائدة، إن شاء الله تعالى.
* * *
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"وَأَبْشِرُوا". فمعناه توقعوا الخير بعد السداد أو المقاربة واستحضروا الرجاء في ثواب الله تعالى، ولا تيأسوا من رحمة الله، ولا تغتروا ولكن هو جلب لرحمة الله، وطلب لها بالوجه الصحيح، فإن من عمل عملاً صالحاً يُرجى له الجنة برحمة الله وفضله.
* * *
وذلك لأن العمل مهما عظم شأنه لا يساوي ذرة في نعمة من نعم الله علينا في الدنيا.
ولو كان العمل يدخل صاحبه الجنة بذاته لكان أولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا ينبغي لأحد أن يعتمد على عمله في دخول الجنة أبداً، فإن الاعتماد على العمل ينقص الرجاء في رحمة الله تعالى.
قال ابن عطاء الله في الحكم: "من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند الزلل".
وقوله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإيصاء بالسداد والمقاربة والاستبشار: "فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ" فيه إرشاد عظيم لكل من أراد أن يصل إلى أعلى درجات المعرفة بالله ليتأدب معه في شأنه كله، فلا يرى لنفسه فضلاً في أي عمل صالح يقوم به ويوفق إلى الإتيان به على أحسن الوجوه وأكملها.
وليعلم كل من أراد أن يعلم أنه لن يعمل عملاً صالحاً إلا بتوفيق الله تعالى، وتوفيق الله نعمة تتطلب الشكر، والشكر على نعمة التوفيق نعمة أخرى تتطلب الشكر، فلا تنتهي النعم ولا ينتهي طلب الشكر، فكيف يدعي العبد أن له عملاً يدخله الجنة بذاته، والفضل من الله أولاً وآخراً.
ومنتهى التوحيد ألا يرى العبد لنفسه شيئاً مع الله تعالى، فلا يسعه إلا أن يفوض الأمر إليه، وأن يرضى ما قسمه الله له، فإن يعذبه فذاك محض عدله، وإن يثبه فذاك محض فضله.
والإسلام الخالص يقتضي التسليم الخالص من كل شوائب الشرك الجلي والخفي، وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لنا المثل الأعلى في الإسلام الخالص فيقول عندما قالوا: "وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ" وفي رواية أخرى: "بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
أي إلا أن يلبسني الله بشيء من رحمته، من قولهم: أغمدت السيف، أي ألبسته غمده وسترته به.
وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }. (سورة يونس: 58).
فهو صلى الله عليه وسلم بعد أن أوصاهم بالسداد والمقاربة والاستبشار وجه همتهم إلى الطمع في رحمة الله، وحذرهم – بطريق غير مباشر – من الاعتماد على العمل؛ لما فيه من الرياء والغرور والجهل بسنن الله التي خلت في عباده وما إلى ذلك مما يشتد خطره ويعظم ضرره.
ومن أحسن الظن بالله لم يعتمد على عمله، ولم ييأس من العفو والمغفرة
وقد جاء في الحديث الصحيح: "وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا".
وفي رواية قالوا: "قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، ويؤيدها ما ورد في الصحيحن عن عمران بن حصين قال: قال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ – أَوْ: لِمَا يُسِّرَ لَهُ –"
وبهذا الحديث يعالج النبي صلى الله عليه وسلم مرضين خطيرين هما الغرور واليأس، فيقول للذي يعمل بعمل أهل الجنة: لا تغتر بعملك، ويقول للذي يعمل بعمل أهل النار: لا تيأس من رحمة الله، فيلتقي كل منهما على الخوف والرجاء، ويكون لكل واحد منهما قسط منهما، فالمغرور يخاف من سوء العافية، ويرجو رحمة الله، واليائس يخلط الخوف من عذاب الله بالطمع في رحمته، وهذا هو الصراط المستقيم.
وليعلم كل مسلم أن الأعمال بخواتيمها، فعجباً لمن يسأل الله الرزق وهو مضمون له، ولا يسأل الله حسن الخاتمة وهي أمر غير مضمون له.
صحيح أن الأمور مقدرة، وأن القدرة لا ينحرم، ولكن المسلم بعمل، ويعمل سواء أثابه الله أم عذبه، فقدر الله – عز وجل – لا يحملنا على الطاعة ولا المعصية، فلندع المقادير تجري في أعنتها ونعمل ما وسعنا الجهد وليكن ما يكون في علمه فعلى العبد أن يسعى وليس عليه تحصيل المطالب.
وجماع الخير في الصبر والشكر والرضا بالقضاء والقدر، فإن ذلك هو سبيل النجاة من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة.
واعتبر بما حكاه الله – جل شأنه – في محكم التنزيل عن مؤمن آل فرعون، فإنه قد بذل جهده في هداية قومه ثم ختم حديثه معهم بقوله كما حكى الله عنه: { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (سورة غافر: 44).
فكانت عاقبته ما بينه الله بقوله: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (سورة غافر: 45).
* * *
وعلى العبد أن يداوم على ما اعتاد على عمله بالليل أو بالنهار، ولا يقطعه حتى لا تنقطع روافده الآتية من قبل الله تعالى، فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يُتْقنَهُ وأن يدوام عليه، وكان أصحابه يقتدون به في ذلك، فإن للعمل الدائم حلاوة يتذوقها المؤمن ويستمرنها فلا يسهل عليه الاستغناء عنه بحال.
وإن حملته الضرورة على تركه بادر بفعل ما يماثله مما يسهل عليه.
ولا يزال العبد يعمل من الصالحات فيعطيه الله الأجر ما دام يعمل، "وَاللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" أي لا يزال يعطيكم ويعطيكم مادمتم تواصلون الطاعة، وتداومون عليها، والله واسع الفضل والرحمة.
الكاتب : الدكتور/ محمد بكر إسماعيل